لا أحب أن أكتب بقلمي حزنًا وألمًا ولكن ما أصبحنا عليه من رخص لدمائنا وقهر وانكسار لقلوبنا فإنه لا بدّ وأن تثكب الأقلام مدادًا من الدموع؛ لتحكي قصصًا لأناس يسعون في حياة تكبلهم بجميع قيودها وتعتصر أفئدتهم في شقاء ثم ينتهي بهم الأمر بانصهار أجسادهم بالنيران، عندئذ يتحررون من قيودهم إلى الأبد تحررًا بلا رجوع؛ فهم قد ذهبوا إلى الآخرة التي هي دار البقاء، وتركوا وطنهم دار الغرباء وما بقي لنا بعدهم سوى جهد البلاء.
أتذكر قول نجيب محفوظ: "كلنا صائرون إلى موت، إنما أعني موتًا أفظع، ليس ثمة ما هو أفظع من الموت ثمة موت يدركك وأنت حي".
هناك صورة قد توقفت عند لحظة ما وصراخ يعلو من بيوت أساسها الطوب اللبن. ألم ينبع من منابع البسطاء الذين أصبحت وسيلة تنقلهم وحياتهم هي ذاتها وسيلة فقدانهم وموتهم؟! ثمة أشياء تغزوا أفكارنا وتُطلي جدران عقولنا بالطلاء الأسود الغامق؛ حدادًا على فقدان دماء تنتمي لوطننا، حدادًا على من ذهبوا وتركوا لنا لونًا أسودًا يعانق صدورنا وارتقوا إلى جنان السماء، وبقينا نحن في مأساة وجحيم الأرض ننعى بالحزن والألم لفقدانهم وهم قد فرحوا وسعدوا بمكان أفضل مما كانوا فيه، دم أصبح رخيصًا كتراب أرض ضاع الأمل فيها، بكاء يروي بدموعه أجسادًا كانت تسعى لتحقيق أحلامها ولكن عقارب الساعة خذلتهم وأبقت ثوان تروي لنا توقف أمل أم في ابنها مستقبلًا، وسعي أب لإيجاد قوت يوم لأبنائه كان قد احترق، وابن أصبح يتيمًا، وزوجة صارت أرملة، وزوج وأبناء فقدوا أمًا ولم يبق لنا سوى اللون الأسود يسدل بظلامه على قلوبنا.
أتخيل امرأة وأبنائها ينتظرون الزوج حتى يعود من عمله إلى البيت، والبيت خال من الطعام، الأولاد جائعون، الأم تدعو لزوجها بالحفظ والسلام وهم ملتفون بجوار بعضهم بعضًا يجلسون أمام التلفاز في انتظار الأب، فجأة خبر اصطدام قطار برصيف محطة مصر، ضربات القلب تتسارع، أين الأب؟! أين الذي يعول أبناءً يتعلمون ويرعى الرضيع؟! أين الأب الذي ينتظر ابنه الأول؟! أين الابتسامة التي تسكن البيت ويتجمعون حولها؟! أين السند؟! كل شيء ذهب وما بقي سوى اللون الأسود، ما بقي سوى أرملة أصبحت ترعى اليتامى، أصبحت تسعى وتعمل وتذرف دموعًا وتعافر مع قيود الحياة البائسة التي كبلت أسرتها بعد وفاة زوجها، وعلى مثل هذه الحالة يكون المقياس؛ أب وأم فقدا ابنهما الوحيد، أولاد فقدوا أباهم وأمهم، صديق فقد خليله، أصبح الموت يقف لنا جميعًا بالمرصاد!! لا نعلم في أي وقت يدركنا علينا؟! ولا من أين سيأتي؟!
يقول أنيس منصور: "ليس أقسى على النفس من أن تشعر بالهوان، أي أن تهون على نفسك وعلى الناس، أي بأن تكون شيئاً ضئيلاً، تصغر حتى تُصبح لا شيء."
ونحن كذلك أصبحنا لا شيء في عيون الكثيرين، أصبحنا بحجم ضئيل لا يُرى، نُدهس بين قطبان القطارات ونتفحم ولا يرانا أحد، أصبحنا سلعًا تُباع بأبخس الأثمان، ونُرمى في النيران، أحداث تجعلنا نذرف بدلًا من الدموع دمًا، تجعلنا نتوجع من قلوبنا على الشباب فقدناهم إثر تلاعب وإهمال فأي إكرام نُكرم به آدميتنا؟! فنحن الذين كرمنا الله - عز وجل- فقال تعالى في كتابه العزيز: "وَلَقَد كَرَّمنا بَني آدَمَ...." سورة الإسراء آية (70)
لقد وهبنا الله الإكرام وفضلنا على كثير ممن خلق فأين إكرام بعضنا لبعض؟! آكرامنا أن تُباع أرواحنا وأرواح أبنائنا بأبخس الأثمان لنكون حطامًا لنيران الإهمال والتجرؤ على الآدمية التي كُرمت من فوق سبع سماوات؟! أفضلنا أن نعيش في جهل وتخلف؟! أم أن نصفق لمن أفسدوا أخلاق شبابنا؟! والله ما رأيت فيما نحن عليه إكرامًا وتفضلًا قط!! ما رأيت إلا ظالمًا قد تجرأ على مخالفة الإله!! فحينئذ أتذكر قول أستاذي عندما قال: "إذا بلغ الظلم مداه وكانت الحرب على دين الله وليس للمظوم سوى الله حينها يتدخل الإله."
وقول الله -عز وجل- الذي لا يخلف وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون: "وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ" صدق الله العظيم.
مرحباً بالتعليقات الجديدة .