مجلة مملكتي مجلة مملكتي
recent

آخر الأخبار

recent
random
جاري التحميل ...

عـــودة




عـــودة 

"قصة قصيرة " بقلم د / رامى المنشاوى

على غير عادته هذه المرة ،وكأن ثمة أمرا يود أن يعرف مبتدأه ومنتهاه ،لم تتغير شهيته المفتوحة للدخان ،كان يدخن بشراهة ،عامان من الغربة لم يؤثرا فيه إلا قليلا ،فقط بعض التوتر ورعشة خفيفة أصابت يده عند الانفعال ،كنت أعلم ماهية الأمر الذي يود أن يفتتحه ،بين جمع الرفاق على المقهى كان يتظاهر برغبته في إنهاء الجلسة ،كان يريدهم أن يتفرقوا ،أن نبقى سويا أنا وهو فقط ،أخرج من حقيبة جلدية علبة من العطر الفاخر أهداها لمحمود علواني الذي كان يجلس بين مقعدي ومقعده ،ثم دس يده مرة أخرى في جيب الحقيبة فأخرج منهاعلبة دواء طبي مرسوم عليها نمر اسيوي وبضع كلمات هندية ،أعطاها للسيد الرشيدي الذي خطفها خلسة ووراها بعيدا في سرعة خاطفة عن الأعين ،وأخيرا دس يده في الحقيبة مرة ثالثة ،وأخرج منها جهاز تابلت وأعطاه لعبد العزيز درويش وقال له "هذا لابنك "،ثم مد يده لجيبه فأخرج علبة سجائر ماركة ديفيدوف ووضعها للحضور.

كانت العطايا هي مؤشر لمحاولة ادعاء البعض ضرورة الانصراف بحجة أنه اليوم الأول لقدوم هاشم من السفر وأن عليه أن يستريح لذا يجب ان ينصرفوا ،تسحب الجمع واحدا واحدا .خلا الميدان الإبراهيمي من الناس إلا قليلا يهجعون ،وآخرين يتوسدون نتفا من الكرتون ،وسيدة تمدد قدميها وقد غلبها سلطان النوم على جدار المسجد وصاحبه .

أخرجني هاشم من استدارة رأسي محاولا تأمل المعالم البشرية الخاملة ،قال :"غريب امر ميدان سيدي إبراهيم الدسوقي ،أظنه معلما انسانيا يقبل باللاجئين بلا تأشيرة أوختم خروج وعودة "

نظرت إليه محاولا تفهم ما يود أن يقوله ،لكني لم أحب أن أقطعه ،فأنا على يقين بما يود أن يتحدث فيه لكنه استكمل :"غريب أمر هذا الولي الصالح ،يقولون أنه كان موسوي المقام ، ولقب بابي العينين عين الشريعة وعين الحقيقة ،لكن على تلاميذه أن يستمعون لتعاليمه بأدب ".

وجه هاشم نظره لعيني مباشرة كأنما لا يريد أن يمنحني فرصة الهروب هذه المرة :"هل التقيتها ؟!"

ابتسمت ثم سحبت سيجارة من علبته التي أتى بها من بلاد النفط، وأجبته :"نعم ،باتت ملامحها ذابلة ، بعض الخمرة في بشرتها أيضا صارت قريبة من الاصفرار ،صبغت وجهها كثيرا بمساحيق التجميل ،لتوارى ألم روحها ،كنت ألاحظها كثيرا وهي خارجة من بيت والدتها في طريقها للعمل ،كانت تقود سيارتها خلف نظارة شمسية كبيرة كأنما لا تريد لأحد أن يعرفها،بعض المشكلات تفاقمت مع زوجها ،كانت تقطعها بالمكوث مع أمها ثم السهر في الميدان هنا ،كانت تلتصق بالضريح ووقت صلاة العشاء كنت الحظها ولم أرد ان افزعها بحضوري ،كنت أنهي الفريضة وأمضي مكتفيا أن اصافحها بعيني "

سحب هاشم نفسا عميقا من سيجارته ،كان يتأملني كأنما يستصرخني بأن أتحدث بكل شيء،طيلة عامين عليه أن يعرف كل شيء عنها ، الحل الأوحد كان لرحيل كليهماعن بعضهما ، تجمعا سويا ثم افترقا لتتزوج من رفيق عمل في المحاماة وأصبح مديرا لمكتب كبار الساسة في الوطن ،بينما هو بات مطاردا غير منتو على أمر أو هوية ، ثم انفصلت هي عن زوجها لأيام ،كانت كفيلة بأن تعيد الماضي بكل جبروته وجموحه ،ليكون الميدان الابراهيمي هنا شاهد على تجدد اللقاء والذكرى .

صرخ هاشم :"ألم تنتو بي الرحمة وتتكلم ؟

انفعلت وأناأجيبه :" وبما تريد أن أخبرك ،هل أخبرك بالمشهد الأخير يوم سفرك ،وقت أن ذهبت لزيارتها محاولا اقناعها بضرورة العودة لزوجها حفاظا على لم شمل الأسرة ، عندما مثلت دورالمصلح النفسي وأني سآتي بالمأذون ليرد الطلقة التي وقعت ،هل ستسعد إذا أخبرتك بكل تفصيلة في المشهد؟"

قال هاشم بصوت يتحشرج :"تكلم واحك لي"

كانت مثل وردة تأبى الروح أن تفارقها ، اصطحبت المأذون معي ،وبمجرد أن شاهدتني جرت جهة دورة المياه ،سمعنا صوت زجاج يتحطم ،دخلت أمها عليها ،دفعتها هي وخرجت بثوب خفيف ،فمنحتها سترتي ،فدفعتني وجرت ،رمت هاتفها في وجهي وجرت ، كنت ألاحق خطواتها وهي تسير حافية ،قدماها تنزف ،تجاه الميدان جرت ،ثم تعلقت بأول اتوبيس التقاها ،هنا ضاعت من أمامي ،ابتلعها اتوبيس النقل العام ،ومشى بعيدا كأنما يصحبها لعالم آخر،التفت خلفي فكانت أختها الصغيرة ،تربت على كتفي وتخبرني أنها تركت في جيب سترتي هاتف امها ،وأنها ستحاول أن تتواصل معها بعد دقائق ،كانت المحاولات الأولى من اتصال اختها عليها تأتي خائبة ، وفي المرة العاشرة ،رد على الهاتف سائق الاتوبيس يخبرنا أنها في حالة مزرية تردد باسمك :"انت فين يا هاشم ".

كنت قاسيا يا هاشم ،كنت قاسيا ،حتى في فراقك لها كنت قاسيا .

كان هاشم وقت سردي شاردا لجهة أخرى من الميدان ،ضم يده إلى صدره ،وثمة عراك يدور بذاك الصدر .التفت إلي وقال :"أريد أن التقيها "

رددت حاسما وحازما :"دعها لحياتها يا هاشم ،أهذا ما وعدت به سيدك ابراهيم الدسوقي "

سألني :"والمسبحة الخشبية التي أهديتها لها ،هل تزال معها ؟

أجبته :" لا تفارق سيارتها ، في كل مرة اتلصص على سيارتها فأجدها معلقة في المرآة الداخلية ".

هي لا تزال تحبك يا هاشم ، لكن لا يجب أن تراها ولا تحادثها ،دعها لحياتها الماضية والجديدة ،لازلت تبحث عن هويتك عزيزي .

شرد هاشم ببصره بعيدا كأنما يستدعي صورا من الماضي ....

"كان صوت ماجدة الرومي صادحا ،أمنيتها الوحيدة أن نرقص سويا ،كانت خطواتها تتناثر بخفة ،يدها إلى يدي ،ورائحة أنفاسها تكب في صدري بردا وأمنا وسلاما ،كانت شبيهة بطفلة تمرح ،على صوت ماجدة الرومي وصياحها كانت تبتسم وتعانقني وترسم قبلة على وجهي ..."أحتاج إليك وأهرب منك " تنطق ماجدة الأحرف وهي تتفحصني بعينها ،اقترب من جسدها وقد امتليء جسدي بالصراخ وطلب الروي ،تستيقظ هي من غفوتها ،تقول في نبرة إيلاف "هاااشم "

أنا خائفة .

أسألها :مما تخافي ...فتبكي .

أمد يدي في جيبي فأجد مسبحتي التي أعطها لي الدرويش داخل ضريح سيدي إبراهيم الدسوقي ،ألف المسبحة حول رقبتها فتنطفأ داخلي كل مشاعل الرغبة الآدمية ثم أطبع قبلة على رأسها وأسحب يدها ونمضي جهة الميدان ".

عن الكاتب

Unknown

التعليقات


اتصل بنا

مبروك تم الاشتراك بنجاح فيه مجلة مملكتي سيصلك كل جديد

جميع الحقوق محفوظة

مجلة مملكتي